الرصافة
الرصافة
كانت سورية وستبقى نبع الحضارات , حوت أروع الآثار التي ضربت جذورها في أعماق التاريخ , وكانت الرصافة إحدى هذه الجواهر التي مثلت المدينة السورية خير تمثيل, وتبعد حوالي 30 كم عن الطريق العام الواصل بين حلب والرقة, و166كم عن حلب, و153كم عن دير الزور , ورد ذكرها في كتابات آشورية باسم ( رصابا) من القرن الثامن والتاسع قبل الميلاد, وكانت يومها مركزاً لحاكم آشوري , كما أنها ذُكرت في التوراة في سفر الملوك باسم ( راصف) ولفظة ( رصف) باللغة العربية القديمة تعني الطريق المرصوف, وكان طريق دولي يمر فيها يوصل بين الفرات والبحر المتوسط ماراً من الرصافة الى السخنة .
جعل الآشوريون من الرصافة معسكراً حربياً في القرن التاسع ق. م وبموقعها الاستراتيجي أصبحت الرصافة ذات أهمية تجارية وعسكرية تدافع عن الحدود المتاخمة للفرس خلال العصرين الهلنستي والروماني, إضافة إلى تموين القوافل التجارية .
وفي حديثنا عن الرصافة لا يمكن إلا أن نذكر قصة سرجيوس وباخوس هذان القائدان في الجيش الروماني المرابط على الحدود السورية تحت إمرة الامبراطور ( ديوكليتيان), ففي يوم من الأيام دخل الامبراطور مع حاشيته الى معبد ( جوبيتر) للصلاة وتقديم الأضاحي في أحد الأعياد, إلا أن سرجيوس وباخوس تخلفا عند الباب رافضين الدخول ومعلنين بأنهما مسيحيان, وهنا غضب الامبراطور وخلع عليهما رتبهما العسكرية ولباسهما وألبسهما لباس النساء تحقيراً , وأرسلهما الى حاكم الرصافة في شمال سورية وهناك جُلدا بعنف فمات باخوس تحت السياط عام 303م, أما سرجيوس فقد سُمِّر حذاؤه على قدميه بمسامير حادة وأُجبر على المشي لمسافة طويلة ثم قطعوا رأسه ودُفن كلاهما في الرصافة.
في عام 313م صدر مرسوم ميلانو الذي سمح فيه الامبراطور ( قسطنطين) بحرية الأديان فانتشرت المسيحية, وهُدِّمت المعابد الوثنية وبنيت كنيسة في الرصافة لحفظ رفات القديسين سرجيوس وباخوس والقديسة جوليا, وكانت هذه الكنيسة واحدة من خمس كنائس أُقيمت داخل سور الرصافة, وفي عهد الامبراطور ( جوستينيان 527م -526 م) أعاد بناء أسوار الرصافة واستبدل لبنها بالحجارة الجصية, وجعلها حصناً منيعاً, وعندما اعتنقت قبائل الغساسنة الديانة المسيحية في القرن الرابع الميلادي كان نفوذهم قد وصل إلى الرصافة فازدادت أهميتها دينياً واقتصادياً واعتمدهم البيزنطيون خط الدفاع الأول ضد الفرس واستمر ذلك إلى أن ساءت العلاقة بين الغساسنة والبيزنطيين حيث أسروا الملك الغساني المنذر بن الحارث مع زوجته وأولاده ثم أُسر ابن الملك النعمان بن المنذر, وبذلك ضعفت قوة الغساسنة .
وفي القرن 6م احتل الفرس قسماً كبيراً من سورية الشمالية وصلوا الى أنطاكية , ووقعت الرصافة تحت سيطرة الفرس واستسلمت للإمبراطور الفارسي كسرى الثاني. وحينما دخل المسلمون بقيادة خالد بن الوليد في القرن 7 م وجدوها خراباً كما تركها الفرس, ولكن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك سكنها لأنه كان يفضلها على الرقة بسبب هوائها العليل, وكان فيها حينما أصبح خليفة وعمرهُ 34 عاماً وذلك في عام 724م , ومات فيها أيضاً عام 743م , ورمَّم هشام أسوار الرصافة وأصلح صهاريجها وبنى فيها قصرين, وأهتم بالزراعة وري الأراضي وري الأراضي المحيطة, وجعل منها عاصمة ثانية بعد دمشق اشتهرت بزمانه باسم رصافة هشام, وكثر عدد سكانها وتوسعت حتى أصبح قطرها 3 كم وانتعشت التجارة وصناعة النسيج الصوفي والكتاني, والخزف ذو البريق المعدني والزخارف الإسلامية التي يشبه خزف الرقة , وصارت مقصداً للشعراء والتجار.
وحين دخلها العباسيون عام 750م بعد أن هزم عبد الله بن علي العباسي آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد دمَّر المدينة وقتل سكانها وقضى عليها وهُدم قبر هشام, وفي نهاية القرن 8م قضى على ما تبقى منها زلزال رهيب .
وحينما اقترب المغول منها أمر السلطان بيبرس عام 1277م بإجلاء سكانها إلى السلمية وحماه خوفاً عليهم، ولكن المغول أبادوها خلال هجماتهم عليها في القرنين 13 و14 م , وبعد ذلك هُجرت الرصافة وتضاءلت أهميتها وصارت تجارتها تحت حماية البدو المحيطون بها, ولكنها استمرت كمحطة للقوافل العابرة واقتصر نشاطها بعد ذلك على تصنع البضائع الصوفية .
آثار الرصافة
أسوار الرصافة وأبوابها:
تعتبر الرصافة أضخم نماذج العمارة العسكرية التي ما تزال قائمة بشكل كامل منذ الفترة البيزنطية حتى الآن، كان يحيط بمدينة الرصافة سوران أحدهما خارجي والآخر داخلي ويحيط خندق بالسور الداخلي، تبلغ سماكة السور الداخلي 3 م، وهو مبني بالحجارة الكلسية ومدعم بالأبراج البارزة المستطيلة، وجُعلت الأبراج في زوايا السور دائرية.
تحيط بالمدينة من الداخل أروقة مسقوفة تفتح على الداخل بأقواس تستند إلى دعامات، في منتصف كل جدار من السور باب رئيسي، وبجوار كل باب رئيسي من الأبواب الأربعة باب ثانوي.
يعتبر الباب الشمالي للمدينة أحسن أبواب مدينة الرصافة حفظاً وأكثرها جمالاً و زخرفةً، على جانبيه يرتفع برجان مستطيلان بارزان، يتألف الباب الشمالي من ثلاثة أبواب، أوسطها أكبرها، وتزين واجهة الباب من الخارج خمسة أقواس، نقش عليها زخارف نباتية جميلة جداً أبرزها عناقيد وأوراق العنب، وتستند الأقواس إلى ست أعمدة تيجانها كورنثية، وكان الباب يؤدّي إلى شارع مستقيم يؤدي إلى وسط المدينة.
خزانات المياه:
لا بد من الإشارة إلى الأقبية الواقعة في الجنوب الغربي من المدينة، وهي مخصصة لتخزين مياه المطر، ولولاها لصار من المُحال العيش في هذا المكان من بادية الشام، جمعت مياه الأمطار الشتوية بواسطة أحد السدود الواقعة في الوادي غرب سور المدينة، ووزعت مياهه عبر قنوات مغطاة في الحي الغربي من المدينة، طول الخزان الأعظم 57.50 م وعرضه 21.50 م، وسقفه قبو مهدي يستند في الوسط إلى أقواس تحملها دعامات، عندما يبلغ ارتفاع الماء داخل هذا الخزان 13 م، يبلغ محتواه من الماء حوالي 16000 م3.
كنائس الرصافة:
عُثر في الرصافة على عدة كنائس أهمها كنيسة القديس سركيس (الكاتدرائية الكبرى): التي تقع في الجنوب الشرقي من المدينة، وقد ظهرت فيها كتابات تأسيسية على الفسيفساء، تذكر أن البناء أُنشئ عام 556 م. وقد جرت لهذا المبنى ترميمات وتجديدات متعاقبة خلال القرون التالية، وقد بُنِيَت الكنيسة وفق طراز البازليك (بهو أوسط عريض وبهوان جانبيان أقل عرضاً)، ووسط البهو الأوسط كانت ترتفع البيما وهي منصة حجرية ترتفع في منتصف الكنيسة، مخصصة للكهنة أثناء الوعظ وترديد التراتيل، وكان هذا البهو مغطى بسقف جملوني، أما البهوان الجانبيان فيغطيهما سقف مائل. وفي الرصافة كنائس أخرى أيضاً عرف منها كنيسة الصليب، وكنيسة القديسين (الشهداء).
المباني الإسلامية:
إضافة إلى القصور التي بناها الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك خارج أسوار المدينة، فقد بنى داخلها مجموعة من الأبنية السكنية وخاناً وحماماً خاصاً والجامع الأموي الملاصق للكنيسة الرئيسية (القديس سرجيوس) من جهة الشمال، وللجامع محرابان باتجاه الجنوب، ولا تزال هناك بقايا للمنبر وأعمدة الجامع.
أما الخان فيقع على الطريق الرئيسي الذي يبدأ بالبوابة الشمالية ويمر أمام كنيسة الشهداء، وللخان بوابة للغرب, وهو مربع الشكل له سور عال يصل إلى أكثر من ستة أمتار و على جانبي المدخل هنالك حجرتان لهما سقف مقوس و كانتا مخصصتان للتجار.
بعض اللقى الأثرية:
لقد جرت حفريات تحت الرمال على عمق خمسة أمتار، وتم العثور على لقى ومكتشفات هامة مثل مباخر وأكواب فضية ومذهّبة منقوشة باللغة السريانية، ولوحات رخامية وقطع نقود محفور عليها اسم الرصافة يوجد بعضها اليوم في متحف دمشق، ونُقل بعضها الآخر إلى متاحف الغرب.
هذه هي الرصافة سيرجوبولس (في المسيحية)، رصافة هشام (في العصور الإسلامية). أضخم وأفضل نموذج جمع بين العمارة العسكرية والمدنية والدينية في تاريخ المسيحية، وأجمل مثال على التعايش التاريخي (المسيحي-الإسلامي) في أرض الحضارة سوريا.
تاريخياً : كريم سعد آثرياً:سليم مقداد
ماجستير تاريخ ماجستير آثار
الرصافة
Reviewed by Unknown
on
1:10 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: