زينة
زينة
أحب العد.. أعرف القراءة أيضا" ولكنها صعبة، بعض اﻷحرف لم أعد أذكرها. العد أسهل..
خمسة.. خمسة.. خمس و عشرون.. عشرة. هذا يكفي لشراء اثنتين من الفطائر.
لا أعرف كم الساعة اﻵن، لكن الرجل ذو السيارة الحمراء وصل منذ وقت طويل إلى عمله، هذا يعني أن عمو محمد وصل إلى الفرن و سيسمح لي بشراء الفطائر, عمو محمد طيب القلب كثيرا" و عينيه الزرقاوين تذكراني بعيني حمزة.
المسافة إلى الفرن ليست طويلة, سأعد إلى مئة خمس أو ست مرات وسأصل.
البارحة لم أر عمو محمد ولم أستطع شراء الفطائر, جلست على درج الجامع المقابل للفرن لفترة طويلة أنتظره و لم يأت.. أولا" أذن الظهر، أعرف أنه الظهر ﻷنه بعد ذلك بفترة أذن مرة" أخرى.. هذا يعني أن الأذان اﻷول كان أذان الظهر.
عندما بدأ الرجال يدخلون إلى الجامع للصلاة اضطررت إلى الابتعاد قليلا".. أحدهم صرخ بي: قومي من هون, بدنا نعرف نمر, روحي اشحدي بعيد.
لم أكن أشحذ.. كنت جائعة و أنتظر عمو محمد.
الرجل اﻵخر الذي يجلس على كرسي عمو محمد و يأخذ النقود من الزبائن لا يحبني. أيضا" ينهرني و يقول لي: روحي من هون أحسن ما إضربك.
تجولت قليلا". كان معي خمسة و عشرون و خمسة.
في السوق هناك الكثير من المحلات و الفواكه في كل مكان, عيسى صبي الخضرجي أنقذني، أعطاني تفاحة دون أن يلحظ صاحب الدكان ذلك وهكذا أكلت البارحة, عدت بعد صلاة العصر ﻷجلس على درج الجامع و لم يأت عمو محمد.
من مكاني حيث أجلس أستطيع تمييز الساعة المعلقة على الحائط في الفرن,أعرف قراءة الساعة أيضا"، أذكر الآنسة فاتن في المدرسة حين رسمت الساعة على اللوح و قالت العقرب الصغير على الخمسة و العقرب الكبير على الإثني عشر، إذا" الساعة الخامسة تماما". حين يكون العقرب الصغير على الرابعة و الكبير على الاثني عشر إذا" فالساعة الرابعة تماما", الدروس التي فيها أرقام أذكرها تماما"، أما اﻷحرف فهي صعبة و بدأت أنساها.
على الساعة الرابعة نهضت و بدأت أشحذ من المارة.. حينها فقط كنت أشحذ، أما ظهرا" حين كنت أجلس على درج الجامع فقد كنت أنتظر عمو محمد كي آكل فقط.
أشعر بالبرد كثيرا" اليوم، أكثر من البارحة.. ثلاثون، واحد و ثلاثون، إثنان و ثلاثون،.. سأعد كي أنسى البرد. كلما أسرعت الخطوات أكثر كلما أحسست بالدفئ أكثر.
هاهو.. ها هو عمو محمد, أحس بالأمان اﻵن.. رؤيته وحدها تشعرني بالشبع.
" عمو محمد بدي فطاير بجبنة" و سأمد له يدي بكل المال الذي معي, أعلم أنه لن يأخذ منه شيئا" و سيعطيني فطيرتين بالجبن و اثنتين بالزعتر و اثنتين بالسبانخ و سآكل أنا و عيسى.
لماذا ليس كل الناس بطيبة قلب عيسى و عمو محمد؟
عندما وصلت إلى دمشق السنة الماضية كنت ممتلئة" رعبا" و حزينة جدا".
كان أبي قد خرج منذ فترة طويلة من البيت و لم يعد, وفي آخر ليلة لنا في تلبيسة، حين أخرجوني أنا و أختي هبة من تحت اﻷنقاض، بقيت أمي هناك ولم يستطيعوا إخراجها,آخر ما أذكره من أمي أصابع يدها ممسكة" بيدي, ليلتها، كنت أنا و هبة خائفتين كثيرا"،ضعتنا أمي في سريرها
ليلتها، كنت أنا و هبة خائفتين كثيرا"،وضعتنا أمي في سريرها و أمسكت بيدي و بيد هبة و بدأت تقرأ القرآن.. أذكر تماما" صوتها الذي لم أسمعه أبدا" بعد ذلك: " قل أعوذ برب الفلق, من شر ماخلق", فجأة سمعت صوتا" قويا" جدا" جدا" و سقطت علينا الكثير من الحجارة.... كنت أشعر بالحجارة فوقي و أحاول تحريك أصابع يدي باحثة" عن يد أمي, أبكي كلما تذكرت تلك اللحظة, أفكر لو أنني لم أفلت يدها لكنت أنقذتها و لكانوا وجدوها معي كما وجدوا أختي هبة, تمنيت كثيرا" لو أنهم بدلا" من هبة أعادوا لي أمي.. لا شك أنني شريرة ﻷن الله غضب مني بعد ذلك و أخذ هبة أيضا" في الشتاء الماضي... ماتت هبة تحت الثلج. في تلبيسة كنا نفرح كثيرا" حين يهطل الثلج. كنا أنا و هبة و حمزة ابن الجيران و اخته علياء، كنا جميعا" نخرج للعب بالثلج دون أن يموت منا أحد.
قالوا لي أمك عند الله في الجنة و يقولون أن هبة أيضا" مع ماما في الجنة أيضا". لا شك أن الله غاضب مني ﻷنه اختار هبة لتكون قرب أمي و تركني وحدي هنا.
عيسى يضحك علي حين أقول له ذلك و يقول لي أنت مجنونة... أمك و هبة ماتتا و هما في انتظار الدور .. الله سيقرر من سيذهب إلى الجنة و من سيذهب إلى النار.
ليلا" أفكر أنني حين أموت سأذهب إلى النار فأنا لست طيبة" مثل أمي أو أختي هبة, و حين كنت أذهب للحديقة كل ليلة كي أنام في الصيف.. كنت أبدأ بعد النجوم: واحدة، اثنتان، ثلاثة،... ثم أتخيل وجه أمي ينظر إلي من السماء. الذين يموتون يذهبون إلى السماء أليس كذلك؟ كنت أتخيلها تنظر إلي و شعرها يخرج من تحت حجابها لتعيد ترتيبه مرة" أخرى. كنت أتخيلها تبتسم لي.. ثم يختفي وجهها. أغمض عيني بشدة أريد أن أنام بسرعة و أدعو الله أن يسامحني و أن يرسلها لي في المنام.
لم أرها في منامي سوى مرة" واحدة و هي تحممني.. كنا نلعب بالماء و نضحك و... هذا كل ما أذكره.
اﻵن في الشتاء الوضع أصعب.. البرد شديد جدا" و لكنني اكتشفت بناء" أستطيع في آخر الليل الدخول إليه و النوم على باب القبو, القبو لا يسكنه أحد.. اكتشفت ذلك وحدي و لم أقل ﻷي من اﻷطفال اﻵخرين ذلك, أخاف أن أموت .. أخشى أن يضعني الله في النار ﻷنني سرقت, سرقت تفاحة" من البائع الذي يعمل عنده عيسى, يومها لحق بي عيسى حتى يأخذ مني التفاحة كما طلب منه صاحب الدكان.. و فعلا" تمكن عيسى مني و أمسكني من شعري.. و أخذ التفاحة من يدي و ضربني و قال حرامية و نظر في عيني... كنت خائفة" و كنت أبكي.. توقف فجأة" وسألني: جوعانة؟ كنت خائفة" و لم أجب, أعطاني التفاحة و قال: خذي.. في المرة القادمة لا تسرقي, حين تكونين جائعة قفي في زاوية الشارع فقط و أنا سأتكفل بالباقي.
ومن يومها أصبحت أنا و عيسى أصدقاء. لم أسرق قبلها و لم أسرق بعدها. بالعكس.. أصبحت أشارك عيسى طعامي في كثير من اﻷحيان.
البارحة أعطاني عيسى تفاحة و اليوم عمو محمد سيعطيني الفطائر و سأتقاسمها مع عيسى و في آخر الليل سأذهب إلى قبو البناء، سأختبئ هناك، سأتكور على اﻷرض فوق دعاسة المدخل, سأشد الكنزة التي أرتديها حتى ركبتي، سأشد اﻷكمام حتى تغطي كفي و سأشد البنطال الذي أرتديه حتى يغطي أصابع قدمي، سأغمض عيني بشدة و أحاول تذكر صوت أمي: " قل أعوذ برب الفلق. من شر ماخلق"، " قل أعوذ برب الفلق. من شر ماخلق"، " قل أعوذ برب... من شر ما خلق".....
بقلم:ديمة الحرستاني
زينة
Reviewed by 0
on
4:20 ص
Rating:

ليست هناك تعليقات: